كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومرة أخرى يقول القرآن: {ذُو مِرَّةٍ فاستوى وَهُوَ بالأفق الأعلى} [النجم: 6-7]
والمعنى هنا هو: صعد؛ والمقصود هو صعود محمد وجبريل عليهما السلام إلى الأفق الأعلى.
وهناك قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ...} [البقرة: 29]
أي: أنه سبحانه قد استوى إلى السماء؛ وإياك أن تظن أن استواءه سبحانه إلى السماء مساو لاستواء البشر؛ لأننا قلنا من قبل: إن كل شيء بالنسبة لله إنما نأخذه في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11]
وبذلك يكون استواؤه سبحانه إلى السماء هو استواء يليق بذاته، والاستواء المطلق شيء مختلف عن الاستواء على العرش.
وهكذا نجد استواءً لغير الله من إنسان؛ وهناك استواء لغير الله من إنسان ومن ملك؛ وهناك استواء من الله إلى غير العرش. وبجانب ذلك هناك استواء على العرش.
وقد وردَ الاستواء على العرش في سبعة مواقع بالقرآن؛ في: سورة الأعراف؛ وسورة يوسف؛ والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد.
وورد ذكر العرش في القرآن بالنسبة لله واحدًا وعشرين مرَّة، وورد بالنسبة لبلقيس أربع مرات؛ فهو القائل سبحانه: {... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]
وقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا...} [النمل: 38]
ثم قال: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا...} [النمل: 41]
وقال: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ...} [النمل: 41]
وبالنسبة ليوسف قال سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش...} [يوسف: 100]
وإيَّاك أن تأخذ الاستواء بالنسبة لله على أن معناه النُّضْج؛ لأن النُّضْجَ إشعارٌ بكمالٍ سَبقه نَقْصٌ.
ولذلك نجد العلماء المُدقِّقين قد عَلِمُوا أن ذِكْر استواء الله على العرش قد ورد في سبعة مواضع بالقرآن الكريم وقالوا:
وَذِكْرُ اسْتواءِ اللهِ فِي كَلِمَاتِه عَلى ** العَرْشِ في سَبْعِ مَوَاضِع فَاعْدُدِ

فَفِي سُورَةِ الأعْرَافِ ثُمَّةَ يُونُسَ ** وَفِي الرَّعْدِ مع طَه فَلِلْعَدِّ أَكِّدِ

وَفِي سُورَةِ الفُْرقَانِ ثُمَّة سَجْدة ** كَذَا في الحدِيدِ افْهمْهُ فَهْم مُؤيَّدِ

وقالوا في المعنى:
فَلَهُمْ مَقالاتٌ عَليْهَا أَرْبعة ** قَدْ حُصِّلَتْ لِلْفارسِ الطَّعَّانِ

وَهي اسْتقرَّ وقَدْ عَلاَ ** وَكذلِكَ ارتَفَع مَا فِيهِ مِنْ نُكْرانِ

وَكَذاكَ قَدْ صَعَد الذِي هُوَ رَابِعٌ ** بِتمَامِ أمْرٍ مِنْ حِمَى الرَّحمَانِ

والصعود إلى العرش هو حركة انتقال من وضع إلى وضع لم يَكُنْ فيه.
وهكذا نجد أن المعاني التي تتمشَّى مع الاستواء في عُرْفنا البشري لا تتناسب مع كمال الله.
واختلف العلماء: قال واحد منهم: سآخذ اللفظ كما قاله الله.
ونردُّ على هذا بسؤال: وهل يمكنك أن تُغَيِّبَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11]
طبعًا، لا أحدَ يستطيع ذلك، وعليك أن تأخذ كل فَهْمٍ لشيء يخصُّ الذات العَلية في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11] ولذلك نجد أهل الدِّقة يقولون: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والسؤال عنه الكيفية بدعة؛ لأن المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسألوا عن تلك الكيفية، رغم أنهم سألوا عن كثير من الأمور.
وهناك آيات متعددة تبدأ بقول الحق سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ...} [البقرة: 189]
وكان السؤال واردًا بالنسبة لهم؛ لكنهم بملكتهم العربية الفطرية قد فَهِموا الاستواء كشيء يناسب الله، فلم يسألوا عنه.
وجاء السؤال من المتأخرين الذين تمحَّكوا، فقال واحد: سآخذ الألفاظ بمعناها؛ فإن قال: إن له صعودًا؛ فهو يصعد، وإنْ قال: إن له استواء فهو يستوي.
ولِمَنْ قال ذلك نردُّ عليه: إن ما تقوله صالحٌ للأغيار، ولا يليق أن تقول ذلك عن الذي يُغيِّر ولا يتغيَّر. وإذا سألتَ عن معنى كلمة استواء فهو استتب له الأمر. وهل كان الأمر غير مستتب له سبحانه؟
ونقول: نحن نعلم أن لله سبحانه وتعالى صفات متعددة، وهذه الصفات كانت موجودة قبل أن يخلق الله الخَلْق والكون؛ فسبحانه موصوفٌ أنه خالق قبل أنْ يخلق الخَلْق، ومُعِزٌّ قبل أن يخلق مَنْ يُعزّه، ومُذِلّ قبل أنْ يخلق مَنْ يُذِلّه، وله سبحانه صفاتُ الكمال المُطْلق.
وبهذه الصفات خلق الخلق، يقول الحق: {... رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]
وكذا نؤمن بأن صفة الخَلْق كانت في ذاته قبل أن يخلق خَلْقه، وحين خلق سبحانه السماوات والأرض أبرز الصفة التي كانت موجودة فيه وليس لها مُتعلِّق؛ فأوجد هو سبحانه المُتعلِّق، وهكذا استتبَّ له الأمر سبحانه.
إذن: إذا ذُكِر استواءُ الله، فهذا يعني تمامَ المُرَاد له، فصار للصفات التي كانت فيه، وليس لها مُتعلِّق أو مَقْدُور؛ مُتعلِّق ومَقْدور.
وإذا وُجِدَتْ هذه الصفة في البشر مثل بلقيس التي وصفها سبحانه: {... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]
فهي تختلف عن صِفَة الله؛ لأنها لم تجلس على العرش إلا بعد أن خلقها الله، ولا يستتب الأمر لملك أو ملكة إلا بمتاعب ومعارك، وقد ينشغل هذا الشخص في معارك وحروب، ثم يستتبّ له الأمر.
وهكذا يختلف استواءُ الله عن استواءِ خَلْق الله، وإذا ذُكر استواء الله على العرش؛ فنحن نُنزِّه الله عن كل استواء يناسب البشر، ونقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ...} [الشورى: 11]
واستواؤه هو تمام الأمر له، لأن أمره صادر، وعند تحقيق أمره في توقيته المراد له يكون تمام الأمر، وتمام الأمر استواؤه، أما كلمة {العرش} فنحن نجدها في القرآن بالنسبة لله.
إما مُضَافًا لاسم ظاهر: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ...} [الحاقة: 17]
وإما مُضَافًا للضمير المخاطب أو الغائب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء...} [هود: 7]
وإما مضافًا للتنسيب: {... فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 7]
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر...} [الرعد: 2]
والتسخير هو طلب المُسخِّر أن يكون كما أراده تسخيرًا، بحيث لا تكون له رغبة، ولا رَأْي، ولا هَوَى، والتسخير ضِدُّه الاختيار.
والكائن المُسخَّر لا اختيارَ له، أما الكائن الذي له اختيار فهو إنْ شاء فعل، وإنْ شاء لم يفعل.
وقُلْنا قديمًا: إن الحق سبحانه قد خَيَّرَ الإنسان: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]
وبذلك قَبِل الإنسان أداء الأمانة وَقْتَ أدائها؛ لا وَقْتَ تحمُّلها، ووقت الأداء غير وقت التحمُّل، وضربتُ المَثَل بمَنْ يقول لصديقه عندي ألف جنيه؛ وأخاف أنْ يضيعوا مِنِّي؛ فاحفظهم لي معك؛ وحين أحتاجهم اعْطِهمْ لي.
ويقول الصديق: هَاتِ النقود وسأُعطِيها لك وقت أنْ تطلبها.
والصديق صادقٌ وقت تحمُّل الأمانة؛ لكن ظروفًا تمرُّ عليه، فيتصرَّف في هذه الأمانة؛ وحين يطلبها صاحبها؛ قد يعجز حامل الأمانة عن رَدِّها، وهو بذلك ضَمِنَ نفسه وقت التحمُّل؛ لكنه لم يضمن نفسه وقت الأداء.
وكان من الواجب عليه أن يقول لصديقه لحظةَ أنْ طلب منه ذلك: أرجوك، ابتعد عنِّي لأنِّي لا أضمن نفسي وَقْت الأداء.
وقد أَبَتِ السماء والأرض والجبال تحمُّل الأمانة وَقْت عَرْضِها؛ وقَبِلتْ كل منهم التسخير؛ فلا الجبال ولا السماوات ولا الأرض لها قدرة الاختيار، ولا هَوى لأيٍّ منها في هذه القدرة؛ مثلها في ذلك مثل كل أجناس الكون ما عدا الإنسان؛ ولم نجد فسادًا في الأرض قد نشأ من ناحية المُسخَّرات.
أما الإنسان فقد قَبِل تحمُّل الأمانة؛ لأن له عقلًا يُفكِّر ويختار؛ ومن الاختيار ونتيجة للهوى جاء الفساد في الكون، ولو أقبل الإنسان على العمل وكأنه مُسخَّر خاضع لمنهج الله؛ لاستقام عمل الإنسان مِثْلما يستقيم عَمَلُ كل الكائنات المُسخَّرة بأمر الله.
فإن أردتم أن تستقيمَ أموركم فيما لكم فيه اختيار، فطبِّقوا قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 8-9]
وانظروا ماذا يطلب الحق منكم في منهجه، فإنْ نفَّذتم المنهج تَسْتقِمْ أموركم، كما استقامتْ الكائنات المُسخَّرة.
ولا يأتي الخَلَل إلا من أننا نحن البشر نقوم ببعض الأعمال باختيارنا، وتكون مخالفة لمنهج المُشرِّع، أما إذا كنا نؤدي أعمالنا ونضع نُصْب أعيننا قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8]
فلسوف تكون أعمالنا مُطابِقة لمنهج الله، وسنجد في أعمالنا ما يَسرُّنا مثل سرورنا حين نجد الأفلاك منتظمة بدقة وحساب.
إذن: فالفساد لا يأتي إلا من الاختيار غير المُرْتجي لمنهج مَنْ خلق فينا الاختيار، وإن كنت تريد أن تكون مختارًا؛ فعليك أن تلتزم بمنهج مَنْ خيَّرك.
ولذلك نجد الصالحين من خَلْق الله قد ساروا على منهج ربهم؛ والتزموا باختيار مراد ربهم فيما لهم فيه اختيار؛ فصاروا وكأنهم مُسخَّرون لمُرَادات الله.
وهؤلاء يسمُّونهم العباد لا العبيد؛ فكل مملوك لله من العبيد؛ آمن به أو كفر؛ أطاع أو عصى؛ أما العباد فَهُمْ مَنْ جعلوا مرادات الله هي اختيارهم، يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63]
هؤلاء هم مَنِ اتجهوا بالاختيار إلى ما يختاره لهم الله.
ونجد الحق سبحانه يقول في الملائكة: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26-27]
وإذا ما التزم العبد بمنهج ربه في حال الاختيار؛ فهو لا يتساوى مع الملائكة فقط، بل قد يسمو عنهم؛ لأنهم مَقْهورون بالتسخير؛ بينما تتمتع أنت بالاختيار؛ وآثرْتَ منهج ربك.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى...} [لقمان: 29]
ولحظةَ تجد التنوين مثل {كلٌّ} فهذه يعني كُلاّ من السابق. أي: الشمس والقمر. أما الجَرْي إلى أَجَلٍ مُسمّى؛ فيقتضي مِنَّا أن نفهم معنى الجَرْي؛ وهو تقليل الزمن عن المسافة.
فحين تريد الوصول إلى مكان مُعيَّن فقد تمشي الهُوَيْنا؛ لِتَصِلَ في ساعة زمن، وقد تجري لتقطع نفس المسافة في نصف ساعة؛ والجَرْي بطبيعة الحال ملحوظ مِمَّن يراك.
لكن: هل يرى أحدنا الشمس وهي تجري؟
لا، لأنها تجري في ذاتها؛ ويُسمَّى هذا النوع من الجري جري انسيابي. أي: لا تدركه بالعين المجردة، وهناك ما يُسمّى انتقال قفزي، وهناك ما يُسمّى انتقال انسيابي.
وانظر إلى عقارب الساعة؛ ستجد عقربَ الثَّواني أسرعَ من عقرب الدقائق الذي يبدو ساكنًا رغم أنه يتحرك؛ وأنت ترى حركة عقرب الثواني؛ لأنها تتم قَفْزًا؛ بينما لا ترى حركة عقرب الدقائق؛ لأنه يتحرك تِبَعًا لدورة هادئة من التروس داخل الساعة؛ وكل جزئية في حركة التُّرْس الخاص بعقرب الدقائق تتأثر بحركة تُرْس عقرب الثَّواني؛ والحركة القفزية لعقرب الثواني تتحول إلى حركة انسيابية في عقرب الدقائق.
وحركة كل من العقربين تتحول إلى حركة أكثر انسيابية في عقرب الساعات، وهذا يعني أن كل جزئية من الزمن فيها جزئية من الحركة.
وحتى في النمو بالنسبة للإنسان أو الحيوان أو النبات، تجد عملية النمو غير ظاهرة لك؛ لأن الكائن الذي ينمو إنما ينمو بقدر بسيط غير ملحوظ، وهذا القدر البسيط شائع في اليوم كله.
وإن أردتَ أن تعرف هذه المسألة أكثر، انظر إلى الظل، وأنت ترى الظل واضحًا ساعةَ سطوع الشمس، ثم ينحسر الظل بانحسار الشمس.
واقرأ قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان: 45]
أي: أن الظل متحرك وغير ثابت، وكل جزئية من الزمن تؤثر في حركة الشمس، فيتأثر بها الظل.
وهكذا يجب أن نُفرِّق بين الحركة القفزية والحركة الانسيابية، وحين تقدمنا في العلم نجدهم يقولون: سنزيد من الحركة الانسيابية عن الحركات القفزية.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى...} [الرعد: 2] والأجل هو المدة المحدودة للشيء؛ وهي محدودة زمنًا إنْ أردنا ظرف الزمان؛ أو محدودة بالمسافة إن أردنا المكان.
والمقصود هنا بالأجل؛ إما الأجل النهائي لوجود الشمس والقمر؛ ثم إذا انشقتْ السماء كُوِّرتْ الشمس، وانكدرت النجوم.